تأليف: محمد الياس نزال

عن الكتاب

جاء في الأساطير الإغريقية، أن قاطع الطريق (الحدّاد "بروكست") الذي أقام قلعته بين مدينتي "أثينا" و "ألفسينا"، كانت له طريقتة الخاصة في قتل ضحاياه. يمدد الضحية على سرير حديدي صنّعه لهذا الغرض، فمن زاد طوله عن طول السرير قطع أرجله. ومن نقص طوله مطّ جسمه حتى تنكسر مفاصله. المهم أن يتساوى طول الضحية مع طول السرير.

معادلة السرير "البروكستي" والضحية لم تتغير قط. وحدها أسماء الضحايا، ومقاسات الأسرّة هي من تغيرت. فالبشرية في نضالها الدؤوب صعوداً نحو القمة، أو الهاوية! ومن خلال الطريق الذي اختطته لحركتها الدائمة جعلت من تكريس تلك المعادلة نتيجةً بديهيةً لواقع الصراع الموضوعي.

كل مشروع استعماري حمل معه، إلى جانب تجهيزاته العسكرية، سريره الحديدي الخاص به. أو قل، منظومة القوانين والقيم التي تصوغ علاقته بالمستعمَر. على أن الثابت المشترك في زحمة المتغيرات وتبدل الأزمنة، هو أن القانون المحلي، في أي بلد داسته سنابك خيل المستعمرين، أو جنازير دباباته، كان الضحية الواجبة.

اسرائيل ككيان كولونيالي في الشرق العربي، كان لها هي الأخرى سريرها الحديدي الخاص الذي جمع بين أصالة الموروث الوحشي للمنظومة الاستعمارية الغربية، وحداثة دموية المشروع الصهيوني الإحلالي. اسرائيل هذه، وإن تشاركت مع المنظومة الكولونيالية في ممارساتها التقليدية من حيث سلب المصادر الطبيعية للسكان الأصليين، واستغلال الأيدي العاملة، وحشرهم في نظام أبارتهايدي اجتماعي سياسي، الا أن كينونتها - ككيان استيطاني بدون أم – جعلت من سريرها الحديدي حالة فريدة في التغول والتوحش.

حالة التناقض الناجمة عن مواصلة هذا الكيان الاستعماري أساليبه الدموية في القمع والنهب، وإصراره في الوقت ذاته على تسويق نفسه كواحة للديمقراطية والتنوير في "هجير براري الشرق المتخلف"، أوجبت تغليف تلك الممارسات بغلاف قانوني، وأوجبت أيضاً تعديل، وتفسير، وتسويق قواعد ذلك الغلاف القانوني بما يضمن استدامة  وتطوير المشروع الاستعماري الإحلالي.

تجربة اسرائيل في تطويع، أو تقطيع، القانون المحلي في الجزء المحتل من فلسطين عام 1948، أفادتها كثيرا في التعامل مع بقية أجزاء فلسطين التي احتلتها عام 1967. فالموروث التشريعي في فلسطين التاريخية  هو ذات الموروث في كل أماكن التواجد الفلسطيني (القوانين العثمانية وقوانين الإنتداب البريطاني)، بمقابل مقاسات المشروع الصهيوني الكولونيالي الإحلالي التي لم تتغير.

ممارساتها (الرسمية) في تجريد فلسطينيي الضفة الغربية (المحميين قانوناً) من مقدراتهم الطبيعية ومن غالبية أملاكهم غير المنقولة، على الرغم من طابعها المؤقت، قانوناً، والمرتبط وجوداً أو عدماً ببقاء حالة الاحتلال، كانت موضوع العديد من الأبحاث والدراسات المحلية والأجنبية. في ذات الوقت، بقي موضوع أيلولة ملكية جزء من الأراضي الفلسطينية الخاصة إلى ملكية "يهودية – صهيونية" في منأى عن أقلام الباحثين، مع أن حق الملكية حق دائم لا يزول بزوال الاحتلال، وحق يرتبط ارتباطا وثيقا بمسألة السيادة الوطنية.

الإحجام عن طرق هذا الموضع الشائك، يمكن تفهمه على ضوء قائمة المعيقات الطويلة، بدءاً من صعوبة الوصول إلى المصادر الأصلية*، مروراً  بالإتفاق غير المكتوب ما بين غالبية الفلسطينيين على وجوب عدم نشر هذا الغسيل القذر، سواء بدافع الحرص على صورة الصمود الفلسطيني، أو انحناءً لمنظومة القيم الإجتماعية السائدة في البنية البطريركية للعائلة الفلسطينية، التي لا تزال أسيرة الحضور الطاغي لمبدأ "الحسنة تخصّ والسيئة تعمّ". وانتهاءً بعش الزنابير الذي يتقاسمه المتورطون في هذه الجرائم. قائمة المعيقات هذه تجعل من الحرص على موضوعية البحث ومصداقيته أشبه بمحاولة فتح صندوق الشرور الأسطوري "Pandora Box" .

إشكالية موضوعية أخرى، تتمثل بالقانون المحلي الذي كان نافذاً في الضفة الغربية عشية احتلالها عام 1967. فهذا القانون، وبحكم وقائع التاريخ السياسي التي حكمت هذه البقعة الجغرافية، تألف من ثلاث طبقات تشريعية : القوانين العثمانية، القوانين الإنتدابية - البريطانية – والقوانين الأردنية. وما زاد في تعقيدات هذا الإطار القانوني أن طبقاته التشريعية التي جاءت متراكمة زمانياً، بقيت كنسيج متداخل. بمعنى أن النصوص التشريعية للطبقة الأحدث، لم تقم بالضرورة بنسخ النصوص التشريعية للطبقة الأقدم. وما زاد الواقع إرباكاً أن مجمل التعديلات التي استدخلتها الأوامر العسكرية على نصوص القانون المحلي، بالحذف أو الإضافة أو الإستبدال، أفرغت العديد من القوانين من محتواها الأصلي. ناهيك عن أن جزءاً كبيراً من هذه التعديلات بقيت مجهولة من قبل غالبية القانونيين الفلسطينيين، بحكم قصر حق نشرها ومنذ سنوات، على شركة "إسرائيلية" خاصة مقرها "تل أبيب"، تشترط مقابلاً نقدياً باهظاً لتزويد المحامين بها.

 والأخطر، على الصعيد السياسي، أن الاتفاقية المرحلية، أو ما يعرف باتفاقية أوسلو، تضمنت بنداً[1] نص على ما يلي : "سوف يحترم الجانب الفلسطيني الحقوق القانونية للإسرائيليين (بما في ذلك الشركات المملوكة للإسرائيليين) ذات الصلة بالأراضي الواقعة في المناطق الخاضعة للولاية الإقليمية للمجلس"*.

فالتسليم بهذا النص والإلتزام به، في ظل الحديث عن حل سياسي يتضمن مبدأ تبادل الأراضي، يمثل أولاً، صك براءة لقوة الاحتلال وشركاته الاستعمارية عما اقترفته من جرائم. وثانياً، إضفاءً للمشروعية على تصرفات قانونية غير مشروعة، استندت إلى التزوير والخداع والإكراه..،  وثالثاً، تشجيعا على مواصلة ارتكاب تلك الجرائم، وهو ما يجري حالياً، ورابعاً، خلق أساس لإمكانية مبادلة بعض تلك "الحقوق" بحقوق ملكية أراض خاصة تقع ضمن محيط الكتل الاستعمارية التي تعمل قوة الاحتلال على ضمها. ما يعني مبادلة أراض في الضفة الغربية بأراض في الضفة الغربية!!

صحيح أن تجربتي العملية، القانونية، في هذا الميدان سمحت لي بتفرس الملامح الوحشية لهذه الظاهرة عن قرب، وصحيح أيضاً أن معرفتي باللغة العبرية، ساعدتني كثيراً في تجميع خيوط هذه الجريمة المستمرة . ولكن دافعي الأقوى في طرق هذا الموضوع الشائك والكتابة فيه كان إصرار الجناة الوقح على مواصلة ارتكاب جرائمهم في وضح النهار، مستظلين بقوة الاحتلال ومستمرئين حالة صمت الضحايا .

وعليه، فإن هذا البحث إلى جانب كونه محاولة للإجابة عن أسئلة رئيسية أربعة: كيف تم تطويع القوانين المحلية، التي قصد منها حماية الأراضي، لتصبح أداة يستغلها المستعمرون على نقيض مقاصد المشرعين؟.  ما هو الوضع القانوني للشركات (المملوكة للإسرائيليين) ذات الصلة بالأراضي التي جرى إنشاؤها؟. من هي هذه الشركات ومواقع نشاطاتها الرئيسية؟. ما هي الآليات والوسائل التي تلجأ اليها هذه الشركات لتنفيذ أهدافها؟ يظل بمثابة لائحة جوابية على الإدعاء بأن نقل ملكية أجزاء من أراضي الفلسطينيين الخاصة، لصالح شركات يهودية - صهيونية بدعوى الشراء من مالكيها الاصليين، جاء في سياق تصرفات قانونية التزمت بنصوص القانون المحلي النافذ في أراضي الضفة الغربية، واكتسبت شرعيتها من قواعد القانون الدولي الإنساني.

لن يتم التطرق إلى التشريعات الفلسطينية ما بعد أوسلو، كونها لا تسري سوى على الأراضي الخاضعة للسلطة الفلسطينية، وليس لها علاقة جدّية بالأراضي التي يعنيها هذا الكتاب، وهي تلك التي لا تزال تحت السيطرة الإسرائيلية المطلقة، والمصنفة حسب اتفاقات أوسلو وما تلاها بالمنطقة (ج). كذلك لم يتم تخصيص مساحة كافية لما تتعرض له مدينة القدس وأراضيها بحكم ضمها إلى دولة الاحتلال، وإخضاع الإجراءات فيها قسرا للقانون الإسرائيلي، لأن ذلك وحده يتطلب أبحاثا مستقلة، لا أن يتم اختزالها في عجالة.

أخيراً، فقد ارتأيت تقسيم هذا البحث إلى أربعة فصول:

الفصل الأول، يتناول التعديلات التي استدخلتها قوة الاحتلال على نصوص القوانين ذات العلاقة بالتصرف في الأموال غير المنقولة، والتي أسست لنشاط الشركات الاستعمارية القائمة. والفصل الثاني، يلقي الضوء على الوضع القانوني للشركات العقارية الاستعمارية، وعلاقاتها البينية والخارجية، وأهم السمات المشتركة في عملها. أما الفصل الثالث، فيتعرض لأسماء أهم الشركات العقارية الاستعمارية العاملة في الضفة الغربية وأرقام تسجيلها، وأهم الأشخاص الذين يقفون من خلفها، إضافة إلى عدد من نماذج صفقاتها. بينما يتناول الفصل الرابع آليات وأساليب عمل تلك الشركات، مع استحضار الأمثلة الواقعية والحية، وتسليط الضوء على أسماء وهويات عدد من الضحايا والجناة.

وقد اجتهدت في أن أرفق ملحقاً، بعد الخلاصة والتوصيات، يتضمن ترجمة للائحة اتهام سمسار الأراضي، المقتول "أحمد عودة"، وقرار الحكم الصادر عن محكمة الاحتلال العسكرية في نابلس، كإضاءة على بعض الأساليب التي انتهجها الشركات الاستعمارية العقارية وسماسرتها، ولا يزالوا

 

* - بحكم أن المعلومات الخاصة بتفاصيل الجهات المتورطة، واساليب عملها، مصنفة كمعلومات سرية من جهة، وكون غالبية المتابعات القانونية والاحكام القضائية المتعلقة بملفات الاراضي تتم باللغة العبرية من جهة ثانية.

[1] - البند (3) من المادة الثانية والعشرين ( تسجيل الأراضي) للملحق الثالث ( بروتوكول حول القضايا المدنية ) للاتفاقية المرحلية.

* - جاء في البند 2 من المادة الاولى للاتفاقية اعلاه ان "مصطلح (المجلس) في جميع اماكن هذه الاتفاقية سوف يفسر، ولحين تنصيب المجلس، على انه يعني (السلطة الفلسطينية)".

 

 

لتحميل الكتاب برجاء الضغط على الرابط أدناه

الملفات